الأربعاء، 11 مايو 2011

سلسلة الرقية الشرعية

الحلقة الثامنة
مسألة إخراج الجان والصرع الشيطاني
هذه المسألة من أكثر مسائل الرقى إثارة ورعباً، وهي من أكثرها خلافاً بين الفرقاء.

فجمع من القراء يؤكدون على أنها حقيقة يرونها ماثلة أمامهم كل يوم، وأنهم يتحدثون مع الجني ويوبخونه ويخرجونه، في مشهد أسطوري تظهر فيه مجموعة من الصور المتباينة. تبدأ بصورة المريض المسكين والغالب أنها امرأة، وهي تهتز وترتجف والجني ينطق على لسانها، وهي تقول ما لا تعي وتتصرف بلا شعور، في حالة بئيسة من الضعف الإنساني يصل فيها المرء إلى أضعف حالاته. ومعها صورة الأهل الخائفين على ابنتهم المرتقبين على أي شيء ينتهي السجال العجائبي بين الإنسي والجني. وصورة الشيخ البطل القوي الذي يخرج الجان ويحرقهم ويزجرهم، في عكس واضح للصورة السائدة عن قوة الجن وقدراتهم الخارقة وجبروتهم.
كما أن القراء يتمسكون بنقولات كثيرة جداً عن العلماء قديماً وحديثاً في جواز تلبس الجني للإنسي وصرعه له، وهذه النقولات موجودة ومشهورة، وصلت إلى حد نقل الإجماع في ذلك(38).
وأما جمع آخر من الأطباء فلا تعني عندهم كل هذه المشاهد الدراماتيكية سوى حالة قوية من "الإيحاء النفسي" القوي الذي تنهار فيه فواصل العقل الباطن فينساح خارجاً ليعبر عن مكبوتاته في صورة يقبلها المجتمع. ويستدلون على ذلك بأن هؤلاء اللاتي خرج الجني منهن يرجعن مرة أخرى إلى العيادة النفسية في الشارع المقابل والمعاناة هي نفسها والمشكلة لم تزدد إلا تعقيداً. ومستدلين على قولهم هذا بأقوال لعلماء يستنكرون هذا التلبس ويؤكدون أن النصوص ليست قطعية الدلالة في ذلك.
ويستشهدون على ذلك أيضاً بعدم وجود هذه الحوارات بين الجن والإنس في المجتمعات الأخرى، لأن الإيحاء لا يخرج إلا في الصورة التي يقبلها المجتمع، وإنما يكون مظهر الإيحاء (أو المس) في الغالب هناك على هيئة مشكلة في الأعصاب، إما تشنجات أو شلل مؤقت أو عي في النطق ونحو ذلك.
يالله أين الصواب؟ الواقعة واحدة والتفسير مختلف إلى حد التناقض!.
أعتقد أننا لابد أن نقر ونعترف بمسألة الإمكانية أي إمكانية التلبس والصرع الشيطاني، فهذه مسألة غيبية والمرجع فيها أهل الشريعة، وعامتهم يقولون بذلك، فلنتجاوزها إلى 3 مسائل مهمة:
الأولى: التحذير من المبالغة الكبيرة المقلقة في نسبة كثير من الأحداث إلى التلبس والمس والصرع الشيطاني، حتى بلغ عدد المصريين وحدهم الذين يعتقدون أنهم ممسوسون قرابة المليون (حسب تقرير المركز القومي للأبحاث). ومن تجربتنا وتجربة غيرنا من الأطباء في تخصصات متنوعة (وليس هناك حسب علمي دراسة علمية حتى الآن) أن الإيحاء نسبته عالية جداً، وأنه ربما كان هو غالب الحالات، وأن التلبس الحقيقي قليل، وعلى كل حال فالفيصل في هذا البحث العلمي والله أعلم.
والثانية: القدرة على التشخيص، أي القدرة على معرفة أن هذا الشخص ممسوس ومصروع. فالتلبس أمر غيبي ولم ترد النصوص ببيان أماراته فهو مما ترك لاجتهاد أهل التخصص، والسؤال من هم أهل التخصص في تشخيص هذه الأمراض؟ هل هم الأطباء أم القراء؟
أما القراء فيقولون: نحن أهل التخصص في الأمراض الروحية، ولذا فالمرجع لنا في تشخيصها، والأطباء ليس لهم معرفة بالأمراض الروحية .والأطباء يقولون: تشخيص الأمراض هو أصل علوم الطب، ولا يناله الشخص إلا بالتعلم والتدريب الطويلان، ومقارنة الحالات المتشابهة ومقاربة الأمراض المتداخلة فن رفيع لا يتقنه إلا الأطباء، وقد فصلت القول في هذا قبل قليل.
وأنا أعتقد أنه لابد من تدخل النظام لحسم هذه القضية، لأنها أساسية وجوهرية، وما لم يتدخل النظام بتحديد الاختصاصات والصلاحيات فسيبقى السجال مستمراً إلى ما شاء الله تعالى.
والثالثة: ما يقع من المحاورة مع الجني والاستنطاق والإخراج. وهذه ليس لها مستند شرعي صريح، ولم تنقل عن المتقدمين بمثل هذه الصورة(39)، والكثرة الكاثرة من هذه الحوارات المزعومة نوع من الوهم والإيحاء النفسي، ولا تعدو أن تكون حواراً إنسياً إنسياً، أحد الطرفين فيه مستعد للإيحاء، والآخر خبير فيه.
لكن هل تنكر هذه الحوارات بالكلية، ويقفل بابها ويقال إنها خرافة؟ أم أن باب الاحتمال لا زال وارداً؟ لست أدري والله الآن فليس بين يدي مستند شرعي ولا طبي، فبقيت المشاهدات والوقائع وهي ليست معدودة في الحجج لاختلاف الناس في تفسيرها.
وأنا طبيب مؤمن بالله أعتقد بإمكانية التلبس والصرع الشيطاني، لكني أيضاً أعتقد بوجود الإيحاء النفسي، وأحسب من خلال تجربتي الشخصية أن كثيراً مما يقال عنها أنها تلبس تؤول في النهاية إلى حالة إيحاء. ولكني لا أنفي التلبس ولا أقول بأن كل حالات التلبس إيحاء.
وقد وقع لي شخصياً معاينة بعض حالات الإيحاء، منها حالة شاب في العشرينات جاء به أهله للطوارئ مذعورين خائفين، والنصف الأعلى من الشاب صالب متيبس لا يتحرك. فلما عاينت الحالة لم أجدها تنطبق على ما أعرفه من علم الأعصاب، فانفردت بالأهل أسألهم فأخبروني أن الشاب يمر بصدمة عاطفية لفتاة هويها ومنع منها. فطلبت منهم أن يوهموه أني طبيب نطاسي كبير لا يشق لي غبار في علم الأعصاب، وأستغفر الله العظيم فقد كنت آنذاك طبيباً تحت التدريب. ثم أحضرت أكبر إبرة وجدناها عندنا في الطوارئ، وجعلت فيها ماء مقطراً، وقلت للشاب بصوت إيحائي، قد عرفتُ ما بك، وهذه إبرة دواء خاصة لمثل هذا الحالات، وأدخلت الإبرة وأنا أتحدث إليه، وأقول له الآن ستشعر بحرارة الدواء وستبدأ أعضاؤك رويداً رويداً بالانطلاق، فوالله لم أكمل جرعة الإبرة حتى انفك عقال الشاب، وكبَّرت أمه المسكينة فرحة مستبشرة وأظنها انخرطت في نوبة بكاء من الفرح.
إني أطالب الأطباء أن يؤمنوا بإمكانية التلبس، وأطالب القراء أن يؤمنوا بوجود الإيحاء، وأقترح وهو حلم قديم لو قام فريق بحثي مشترك بدراسة الحالات التي يقال إنها ممسوسة، وتصويرها بالفديو ومقابلتها وأخذ التاريخ المرضي منها، وإعداد استبانة علمية دقيقة لمحاولة التفريق بين حالات الوهم والإيحاء وحالات التلبس، حسب قواعد أصول علم التشخيص التفريقي المعروفة.
ثم بعد ذلك يتم الاتفاق على تصميم برنامج علاجي إيماني مقنن، لعلاج حالات المس، دون ترك القراء وحدهم يفعلون ذلك، ونحن الأطباء نندب ونشجب ونستنكر، ونحن نفعل ذلك منذ 50 سنة ولم تزدد الحالات إلا كثرة وتنوعاً.
ولابد أن يكون الفريق البحثي هذا مكوناً من أطباء يؤمنون أصلاً بإمكانية التلبس ومستعدين لقبول الغيبيات، ومستعدين في حال ثبوت وجود حالات التلبس أن يضيفوها إلى دليل تشخيص الأمراض العالمي، إما في قسم الأمراض العضوية أو في قسم الأمراض النفسية.
كما لابد أن يكون القراء أيضاً ممن يؤمن "بالإيحاء" كحقيقة عملية، وأن يكونوا ممن يؤمن بأهمية البحث العلمي التجريبي في الإثبات والنفي، دون الاكتفاء بالمطالعات والمشاهدات الشخصية فهي أوهى طرق الإثبات. فأساليب الإثبات المتبعة لدى عامة القراء ليست متوافقة مع تطور العلم التجريبي، الذي بلغ مرحلة متقدمة جداً في طرق الإثبات والتشخيص والتدقيق والمقارنة.
ومن المؤلم أن هذه القضية لو كانت في بلاد الغرب لأشبعوها بحثاً ودراسة على عادتهم في الشغف بالبحث العلمي التجريبي، ولكن بيئتنا البحثية للأسف ليست على الوجه الذي نرضاه.
ألا يا ربي رحماك بهؤلاء المرضى المساكين، الذين ضاعوا بين الأطباء والقراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق