الأربعاء، 11 مايو 2011

سلسلة الرقية الشرعية

السلسلة الخامسة
] ما الأمراض التي تعالج بالرقية؟ وهل الرقية خاصة بعلاج الأمراض الروحية (ذات السبب الغيبي، من السحر والمس والعين)؟ أم هي خاصة بالأمراض المستعصية؟ أم أنها مقصورة على الأمراض النفسية؟ أم هي صالحة لعلاج أي مرض؟ وهل مستند ذلك الشرع أو التجربة أم البحث العلمي؟
والجواب في نظري هنا أيضاً مجمل ومفصل. أما المجمل والمختصر فهو أن الرقية نافعة ومشروعة لكل الأمراض. وأما الجواب المفصل فهو ينبني على 3 مسائل:
الأولى: ما هدي النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- في هذا؟(22)>
الذي يظهر من تتبع النصوص الشرعية، أن الرقية مشروعة لكل أنواع الأمراض. فقد استخدم النبي –صلى الله عليه وسلم- الرقى، أو أذن باستخدامها، في أنواع الأمراض: العضوية منها، والنفسية، وما كانت بسبب العين ونحوها، بل جاءت نصوص أنها تقال كلما مرض الإنسان واشتكى، دون تقييدها بمرض عن آخر.
فمن النوع الأول : ما ثبت أنه رُقيَ في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- لعلاج لدغة العقرب(23)، والجروح (لنوع منها يسمونه النملة) (24). ومن النوع الثاني: استخدام الرقية، على عهده –صلى الله عليه وسلم- في علاج المعتوه والمجنون(25)، وإرشاده –صلى الله عليه وسلم- من أصابه هم أو حزن أن يدعو بدعاء الهم والحزن، وهو دعاء معروف مؤثر(26). ومن النوع الثالث: ماجاء أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمر عائشة –رضي الله عنه- وغيرها أن تسترقي من العين(27). ومن النوع الرابع: ما ثبت أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يرقي نفسه إذا اشتكى(28)، وقد يرقيه جبريل –عليه السلام-(29)، وكان إذا مرض أحد من أهله رقاه(30)، وكان إذا أتى مريضاً أو أُتي به رقاه بأنواعٍ من الرقى محفوظة، وقال لأصحابه من اشتكى منكم أو اشتكاه له أخوه فليقل...الحديث(31).
وبمثل هذا قال جمع من أهل العلم.
فقد قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: وقال جماعة من أهل العلم: الرقى جائزة من كل وجع، ومن كل ألم، ومن العين وغير العين. وقال:...ومن [الـ] حديث.. جواز الرقى من كل شيء يُشتكى به من الأوجاع كلها(32). وقال القرطبي رحمه الله: فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام، وأن ذلك كان أمراً فاشياً معلوماً بينهم(33).
وقد ألهم الله تعالى كثيراً من الناس التداوي بالرقية كلما أصابهم مرض، منذ اللحظة الأولى لإصابتهم به. وهذا الصنيع منهم اقتداء بالنبي –صلى الله عليه وسلم-.

الثانية: هل يمكن معرفة وتشخيص الأمراض ذات السبب الغيبي ابتداءً؟
هذه من مسائل الخلاف الكبرى في باب الرقى، وهو ما يعرف بمسألة (التشخيص)، أي القدرة على تشخيص المرض بأنه بسبب العين أو الجن أو السحر. وهذه مسألة طويلة ولا أريد التوسع فيها هنا، لكن لابد من التأكيد على محل الاتفاق ومحل النزاع.
فمن محال الاتفاق إثبات هذه اٍلأسباب الغيبية أصلاً، أعني وجود الجن والعين والسحر.
ومن محال الاتفاق إثبات تأثير العين والسحر والجن على صحة الإنسان، بأشكال وصور متنوعة بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه.
ومن محال الاتفاق أنه لا يوجد دليل شرعي قطعي على إمكانية القدرة على التشخيص.
وأما نقطة الخلاف الحقيقية فهي: هل يمكن التشخيص بناء على التجربة الشخصية والخبرة العملية والمشاهدات الواقعية؟ على قولين، فكثير من الرقاة يقولون يمكننا تشخيص الحالة بالخبرة والممارسة، وكثير من الأطباء يقولون التشخيص التفريقي (Differential diagnosis) له أصوله العلمية وليس مبنياً على التجربة الشخصية فقط، وما يزعمه القراء من قدرة على التشخيص معدود في العرف العلمي من أضعف طرق الإثبات. فإن طرق الإثبات والتشخيص تطورت مع الزمن، والطرق التي يستخدمها القراء ضعيفة وغير منضبطة.
ولعل القراء فاتهم أمر في غاية الأهمية، وهو أن تشخيص الأمراض علم قائم بذاته يمضي فيه الأطباء سحابة دهرهم، وهو من صميم تخصصهم وهو الوحيدون المصرح لهم رسمياً بالتشخيص. فكيف يقول بعض الرقاة إنهم أهل تخصص بالأمراض الروحية ويعرفون كيف يشخصونها، ويكتبون في ذلك كتباً وموسوعات ورسائل، وهم لم يدرسوا هذا العلم في جامعة ولم يأخذوا فيه شهادة، إنما هي خبرة أخذوها بالمشافهة والتجربة الشخصية؟! بل إن بعضهم صار يطالب الأطباء باحترام تخصص القراء فيه، هذا والله العجب! كيف تخصصوا؟ وأين تعلموا؟ ومن أعطاهم شهادة التخصص؟.
إن علم تشخيص الأمراض التفريقي من أخطر فنون الطب ولا يعطى الطبيب شهادة التخرج ولا تصريح الممارسة إلا بعد التأكد التام أنه متقن لهذا الفن، عارف بخفاياه ومتشابهه، بل إن الطبيب النطاسي في تخصص معين كالقلب مثلاً ليس من حقه أن يشخص أمراض تخصص ثانٍ كالأعصاب، فإذا كان هذا في حق الأطباء حين تختلف تخصصاتهم وهم بالأصالة أهل هذا الفن، فكيف بالرقاة الذين لم يدرسوا هذا الفن ولم يصرح لهم بالممارسة فيه؟!
إنني أعتقد أن ممارسة القراء للتشخيص هو خروج بالرقية عن مقصودها، ودخول فيما ليس من تخصصهم، وهم في غنية عنه. وحاجة الناس للقراء ليست في هذا إنما هي فيما لا يحسنه الأطباء ولا يعرفونه، من قراءة القرآن عليهم وتعليمهم ذلك وربطهم بالله تعالى وتعليقهم به سبحانه ورفع مستوى الإيمان عندهم وتقوية الجانب الروحي لديهم.
وعلى كل حال فالحل في نظري في هذه الجزئية بالذات هو تطوير وسائل التشخيص وطرق الإثبات والبحث، حتى نصل إلى نتيجة علمية مقنعة للطرفين. ومع ذلك وعلى افتراض أن البحث العلمي دلنا على إمكانية التشخيص فإني أرى أن التشخيص من الزيادات المنكرة على الرقية الشرعية، وأنه يدخل الناس في دوامة من الوهم والشك والقلق ليس لها أول ولا آخر، وأن الأولى بالقراء قفل هذا الباب نهائياً، والاقتصار على المقصد الحقيقي من الرقية وهو تقريب الناس إلى ربهم وتعلقهم به وزيادة إيمانهم.
ومن أسف أن غالب مشاكل الرقية وغالب نقاط الخلاف تتركز حول هذه المسألة بالذات، فليت بابها يقفل فنستريح، ونتفرغ للمقصد الحقيقي من مشروعية الرقية.
ومن محال الخلاف أيضاً: المبالغة في نسبة كثير من الأمراض للأسباب الغيبية، من عين ومس وسحر، حتى صار بعض الناس لا يفكر إلا بهذه الطريقة، وكلما أصابته صائبة أو مرض أو توعك قال لعلها عين! أو ربما تكون مساً، أو قد أكون مسحوراً. وساعد على ذلك سرعة تهور بعض المعالجين بإفتاء من جاءه بأن فيك عيناً، وأنت ممسوس من الجن الأزرق، وأنت سحرك ساحر في المغرب، وغالب هؤلاء المرضى مستعد أصلاً لتقبل مثل هذا فيدخل في دائرة من الوهم والشك والقلق، الله أعلم متى يكون خلاصه منها.
الثالثة: هل الرقية تفيد في كل مرض أم أن فعاليتها في أمراض معينة؟
أما من جهة الشرع فقد ذكرنا هدي النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان يرقي لكل الأمراض. أما من جهة الطب فليس هناك أبحاث في هذا حتى الآن، وليس هناك في نظري ما يمنع طبياً من أن تكون الرقية مفيدة لكل مرض. لكن الناس اعتادوا أن يجعلوا الرقية في الأمراض النفسية والمستعصية، ولذلك فنحن نادراً ما نجد في العيادة مريضاً يرقي نفسه من مرض السكري أو الضغط أو القلب أو الربو، إنما يرقون أنفسهم في الأمراض النفسية والمستعصية، وهذا خلاف فعل النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- وهديه. نسأل الله تعالى أن يشفي مرضى المسلمين.
والحاصل:
أن ظن بعض الناس في هذا الزمن، من الرقاة والأطباء وعامة الناس، أن الرقية إنما هي لما كان سببه غيبياً، من عين أو سحر أو مس، أو كان مرضاً مستعصياً عجر عنه الطب، وأن الأمراض العضوية لا تعالج بالرقية، فهو ظن لاتسنده الأحاديث الصحاح، ولا الأقوال الملاح. بل كان لهذا الظن من الآثار السيئة أن تعمق لدى الناس، الفصل بين طب الوحي والطب المعاصر، ووسعت شقة الخلاف بين الأطباء والرقاة.


[8] من يقوم بالرقية
بمعنى هل يقوم المريض برقية نفسه، أو أنه يذهب للاسترقاء عند الرقاة؟
الأفضل والأكمل أن يرقي الإنسان نفسه، أو يتطوع أحد معارفه برقيته، وذلك لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُم الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - وَفي رِوايَة زيادة: وَلا يَكْتَوون" متفق عليه. وذلك والله أعلم لأمور:
أحدها: أن طلب الرقية من الغير يضعف التوكل، بما فيه من سؤال القراء والتعلق بأشخاصهم، مع ما قد يجره من الغفلة عن تقدير الله وتدبيره.
والثاني: أن طلبها من الغير يقطع على الإنسان غنيمة ذكر الله، والتضرع إليه.
والثالث: أن الرقية من الأدوية الشرعية، التي مدارها على قوة الروح.
لكن لا مانع من الاسترقاء عند الرقاة الصالحين الموثوقين، خاصة لمن لايحسن الرقية، كما سيمر معنا في الفقرة (أ) من المسألة رقم (13).
ونحن ننصح المريض دوماً أن يرقي نفسه بنفسه، فإن في هذا خيراً كثيراً له، وإذا أحب أن يذهب للرقاة فليختر الراقي الصالح المتدين، وليحذر أشد الحذر من المشعوذين والسحرة أو من الرقاة الذين يمارسون الرقية بطريقة غير صحيحة.


[9] كيف تساعد الرقى في علاج الأمراض؟
الرقية نوع من الدعاء والذكر، وهو من العلاجات الإيمانية الغيبية التي جعل الله تعالى فيها سبباً للشفاء. وطريقة عملها وتأثيرها من الأمور الغيبية التي ربما لا نستطيع تحديدها، لكن عدم معرفتنا بالطريقة لا يلغي فائدتها.
ومن باب التنظير فأعتقد أن الرقية قد تؤثر بالطرق الآتية:
أنها سبب غيبي- مستقل بذاته، يؤثر بإرادة الله تعالى، لما فيه من بركة كلام الله تعالى.
أنها- تقوي من نفسية المريض وقابليته للشفاء. والقابلية والاستعداد للشفاء عامل مهم من عوامل الشفاء.
أنها في حال تطبيقها بشكل صحيح فإنها ستربط المريض ببقية- العلاجات الإيمانية، كالإيمان بالله واليقين والرضا والصبر والاحتساب والدعاء والرجاء وغيرها.
والرقى ليست من جنس الأدوية الطبية المادية، بل هي من الأدوية الإلهية المتعلقة بالروح، وقوة تأثير الرقية تعتمد على عاملين مهمين:
الأول: قوة القرآن والأذكار وبركتها. وهذا ثابت لا يختلف على مر الأزمان واختلاف الأشخاص.
الثاني: اعتقاد المريض وقوة إيمانه وقناعته ويقينه بموعود الله تعالى. فلابد لها من قوة التوكل وصدق اليقين بالله، ولذا فإنها قد تنفع مع مريض ولا تنفع مع آخر، بحسب ما يكون في قلب صاحبها من اليقين والثقة بموعود الله.
أما الراقي إذا لم يكن هو المريض نفسه، فيكون مؤثراً إذا كان صالحاً مقبولاً عند الله، أما الخبرة والممارسة فلا أظنها من معايير قبول الله لرقية الراقي، لأن الرقية عمل قلبي إيماني غيبي متعلقها الصلاح والاستقامة، لا الخبرة والممارسة.
ويشيع كثيراً بين الناس عبارة (السيف بضاربه) ويقصدون أن تأثير الرقية هو بحسب صلاح الراقي وقوته وخبرته، وهذا القول صحيح إذا كان الراقي هو المريض نفسه، فإن قوة اعتقاد المريض ويقينه بموعود الله هي العامل المهم. أما إن كان الراقي ليس هو المريض فهذا القول رغم شيوعه وهو منقول عن الإمام ابن القيم رحمه الله ليس صحيحاً على الإطلاق. إذ ليس مقصود ابن القيم وهو أستاذ القلوب والرقائق أن يعلق الناس بأشخاص القراء، وإنما مقصوده التأكيد على أهمية النية والاعتقاد في تأثير الرقية.
والمشاهد الآن أن الناس يبحثون عن الراقي الجيد، الذي يشفى الناس على يديه (بإذن الله طبعاً)، فانقلبت الرقية عن مقصودها في تعليق الناس بالله تبارك وتعالى، إلى التعلق بأشخاص القراء. والتحذير من التعلق بالأشخاص يرد حتى عند التعالج لدى الأطباء، لكنه في حق الأطباء أقل خطراً لأن مراعاة أهمية المهارة والحذق في الأطباء واضحة فالعلم الذي معهم مادي تجريبي، أما القارئ فهو مبلغ عن الله تعالى والأصل فيه أن يربط الناس بمولاهم لا بشخصه. والله أعلم.

[10] هل العلاج بالرقية تنطبق عليه قوانين البحث العلمي، ويمكن قياسه وإجراء التجارب عليه؟ أم هو أمر غيبي غير خاضع لقوانين البحث العلمي؟
قرأت لبعض الزملاء من الأطباء أن تأثير الرقية لا يمكن أن تنطبق عليه قوانين البحث العلمي، لأنه أمر غيبي لا يمكن قياسه، ولأنه متداخل مع سلوكيات وعلاجات إيمانية أخرى لا يمكن ضبطها وتحييدها.
فإن كان المقصود إغلاق باب البحث العلمي في باب الرقى نهائياً فهذا لا يمكن أن يوافق عليه أحد، وإن كان المقصود صعوبة ذلك فنعم قد تكون إجرائيات البحث صعبة لكنها ممكنة، ولنا في العلوم النفسية والاجتماعية أسوة حسنة، فلنستفد من طرائق البحث هناك ونعدّلها بما يتناسب مع خصوصية الرقية.
بل إني أقول إن البحث العلمي المنضبط هو المطلوب في هذه المرحلة، بدلاً من السجال الذي وصل حد السباب وتبادل التهم، فالبحث العلمي يرجى أن يساهم في الإجابة على كثير من الأسئلة العالقة، ويزيل اللبس في كثير من القضايا المختلف فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق