الأربعاء، 11 مايو 2011

الرقية الشرعية

السلسلة الرابعة
[4] هل الرقية نافعة فعلاً في علاج الأمراض؟ وما الرأي الطبي في ذلك؟
التداوي بالرقية من الأمور التي اتفق على مشروعيتها بالجملة جميع علماء المسلمين. والسنة مليئة بالأحاديث الصحيحة عن الرقية، فحبيبنا –صلى الله عليه وسلم- رقى نفسه الشريفة، ورقاه بعض الصحابة، وأمر بعضهم بالرقية، وأذن لهم بها حين سألوه عنها، وأقر الذين يرقون في عهده عليه الصلاة والسلام.
وهذا كله دال على أن الرقية سبب صحيح نافع للشفاء. وهناك حوادث كثيرة تؤكد حصول الشفاء بالرقية، مما لا يمكن إنكارها، في السنة النبوية وفي التاريخ والواقع. منها على سبيل المثال حديث الذي لدغته العقرب، فقرأ عليه بعض الصحابة سورة الفاتحة فبرأ (2)، والآخر المجنون المعتوه، الذي رقاه بعض الصحابة بسورة الفاتحة ثلاثة أيام فبرأ(3)، وحديث عثمان بن أبي العاص الذي رقى نفسه من وجع قديم معه فبرأ(4). ومن أخبار الصحابة في ذلك: ما حصل لخيلٍ لأحد التابعين، عانها رجل، فأُحصرت لا تأكل ولا تشرب ولاتبول ولا تروث، فرقيت الخيل فبرئت(5). وقبل ذلك كله: وعود رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، الصادق المصدوق، للصحابة وهو يعلمهم الرقى، أن من قالها عافاه الله(6)، ولم يصبه شيء (7).
الرأي الطبي في فعالية الرقية وفائدتها في علاج الأمراض:
برغم أنه ليس بين أيدينا دراسات تجريبية حديثة تؤكد فعالية الرقية، لكننا نؤكد أن جهلنا بمثل هذه الأمور الغيبية، لا يصح أن يكون مبرراً لإنكارها، خاصة يوم جاء الشرع بإثباتها، وليس من شيء يمنع أن يقوم أحدنا بدراسات علمية مَقِيسَة [أي قابلة للقياس]، ليستيقن من في قلبه شك، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
صحيح أن الطب المعاصر لا يؤمن بالغيبيات وما وراء المادة، لكنه يحترم نتائج البحث التجريبي الموثق، فلو أن الأطباء المسلمين نشطوا لبحث مسائل الرقى والعلاجات الإيمانية عموماً وخرجوا بنتائج مقنعة، لاقتنع بها العالم كله بما في ذلك علماء الغرب. وقد رأيناهم بأم أعيننا كيف كانوا يستخفون بكثير من ممارسات الطب الصيني وطب الأعشاب، فلما أجريت على بعضها بحوث تجريبية وخرجت بنتائج مقنعة سلموا لها، بل وأدخلوا ما أثبته البحث منها في مناهج الطب عندهم.

[5] في زمن الرقية، وكيف يرقي؟.
قال ابن حجر رحمه الله: قد ثبت في الأحاديث استعمال [الرقى] قبل وقوع [البلاء]. واستدل لذلك بأحاديث، منها حديث عائشة –رضي الله عنها-:"أنه –صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوى إلى فراشه، ينفث بالمعوذات ويمسح بهما وجهه..." (8)، وحديث ابن عباس:"أنه –صلى الله عليه وسلم- كان يعوذ الحسن والحسين، بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة.." (9).
والذي يهمني هنا من الناحية الطبية أن الرقية مشروعة كإجراء وقائي حال الصحة قبل حصول المرض، وهذا فيما أحسب مفهوم غير مطبق على شكل واسع بين الناس، وهنا يأتي دور الراقي في توعية المجتمع. والحري بالإنسان ألاّ يفرط في هذا الحصن الحصين، من مشكاة النبوة، ومن لم يحفظه الله لم تحفظه حيطته وحرصه.
أما إذا وقع المرض فمشروعية الرقية واضحة ومشهورة.
وفيما يتعلق بكيفية الرقية فقد بينها العلماء وجاءت في السنة على هيئات وصور متعددة تراجع في مظانها، لكن الملاحظ أن الكيفية الشائعة الآن هي القراءة في الماء أو الزيت وشربه أو دهن الجسم به، وهذه الكيفية وإن كانت مشروعة وجاءت فيها بعض النصوص والآثار(10)، إلا أن الشائع المستفيض من فعله –صلى الله عليه وسلم- وفعل أصحابه هو القراءة المباشرة بالنفث أو التفل(11).
وقد توسع الناس كثيراً في الماء والزيت المقروء فيه، حتى صار الماء والزيت المقروء يباع ويشترى ويوزع على المرضى في المستشفيات، ولست أدري هل هذا مفيد أصلاً؟ وهل هو متفق مع مقصود الشارع من تشريع الرقية أو لا؟ في النفس والله من كل هذا شيء، والكلمة الفاصلة على كل حال لأهل العلم بالدليل، والله أعلم.

[6] إذا مرض الشخص فهل يتعالج بالرقية أولا أو يتعالج بالطب الحديث أو يمكن الجمع بين الرقية والعلاج الطبي؟
بمعنى: هل يكتفي الإنسان بالرقية دون العلاج الطبي؟. أو يكتفي بالعلاج الطبي دون الرقية؟.
فلو أن إنساناً لُدغ -مثلاً- وأحب أن يرقي نفسه بالفاتحة، ولايذهب للطبيب، فهل يقبل منه هذا؟.
والجواب في نظري مجمل ومفصل. أما المجمل والمختصر فهو أن الأفضل والأكمل الجمع بين الدوائين الإيماني والطبي. وأما الجواب المفصل فهو ينبني على 3 مسائل:
الأولى: هدي نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم-، ماذا كان يصنع؟ (12).
الذي جاء عنه –صلى الله عليه وسلم- ليس من جنس واحد فقط، وهو –صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق وأعظمهم توكلاً وأقواهم يقيناً، ومع ذلك فتارة يعالج ما يصيبه، أو يصيب غيره، بالرقية، وهذا منتشر مشهور لا يحصى. وتارة بالدواء المادي، وهذا كثير من إرشاده –صلى الله عليه وسلم- للصحابة، وفَعَله هو نفسه، كما صح عنه أنه احتجم (13)، ووضع الحصير المحروق على جرحه(14)، ووصف النبي –صلى الله عليه وسلم- لبعض المرضى من أصحابه أدوية طبية كانت شائعة في زمنه، ولم يرشدهم إلى الرقية(15)، وتارة يجمع بينهما(16)، بل ربما عالج المرض نفسه، تارة بكذا وتارة بكذا، كما كان يصنع بالجروح والقروح.
والثانية: في قوة تأثير الرقية، وهل هي سبب قطعي للشفاء؟
الذي يُفهم من كلام أهل العلم أن الرقية سبب مؤثر ولاشك، وهي من جنس الدعاء، فإن الله تعالى قد يقبل دعاء عبده، وقد يؤخره له ولو كان العبد صالحاً، لحكمٍ كثيرة يعلمها الله عز وجل.
ثم إن الرقية متوقفة على عوامل عديدة، منها أن تكون نفس الراقي مستيقنة بأثره مطمئنة إليه، أما إذا رقى على سبيل التجربة وقلبه يرجف، فإن هذا لاتنفعه الرقية في الغالب. وهذا بخلاف الأدوية المادية، فهي وإن كانت مفتقرة إلى روح قوية، لكن أثرها قد يستقل بنفسه(17).
ومعنى هذا أن الرقية وإن كانت سبباً شرعياً لعلاج الأمراض، لكنها ليست سبباً مقطوعاً به في كل حال، بل قد تكون سبباً مقطوعاً في حق أناس، وتكون سبباً مظنوناً في حق آخرين.بل قد تكون في حق الشخص نفسه، مرة سبباً مقطوعاً، ومرة سبباً مضنوناً.
لكن هذا لا يعني أن الرقية بمجموعها غير مفيدة، كلا، بل الرقية مثلها مثل الدعاء ومثل غيره من العلاجات الإيمانية، فهي وإن كانت تختلف في آحاد الناس، لكنها في المجموع يجب أن تكون مؤثرة بفارق واضح، وإلا لما كانت لها قيمة حقيقية.
والثالثة: في قوة الدواء المادي الطبي، وهل هو قطعي؟
العلاجات الطبية ليست على درجة واحدة:
إذ منها أدوية عُرفت وجربت وثبت أثرها، وترجح الضرر بتركها، فمثل هذه- واجب على المريض الأخذ بها، لما تقرر في الشريعة أن الأخذ بالأسباب الواجبة واجب، وأن ترك المتحقق منها، مناقض للتوكل الصحيح(18).
وهناك أدوية يغلب على الظن نفعها، بلا- ضرر ظاهر يلحق بتركها، فهي أسباب مظنونة وليست قطعية، فالأخذ بها حسن، لكن تركها ليس بمعيب في الشرع، ولا في العقل.
وبعض العلاجات المعاصرة لم يثبت نفعها،- وليس في تركها ضرر، فهي أسباب موهومة.
ومما نبالغ فيه نحن الأطباء: تخويف المرضى من ترك العلاج الذي نصرفه لهم، مهما يكن نوعه ودرجة قوته، وهذا غفلة عن هذا التقسيم البديع لقوى الأدوية، الذي قرره علماء العقيدة رحمهم الله تعالى.
والعلم برجحان النفع أو رجحان عدمه أو الشك والتساوي، عائد إلى ما يؤتاه الطبيب من العلم، فقد يقوى علم الطبيب، وتزداد تجربته، حتى يكون أقدر من غيره على تحديد قوى العلاجات. وقد يقل علمه حتى لايقدر على ذلك.
والطب المادي الذي كان في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان في غاية الضعف، بحيث يصدق عليه أن غالبه موهوم أو مظنون. ولم يزل الطب يزداد قوة، جيلاً بعد جيل، حتى آل إلى ما هو عليه الآن من القوة. والقوة التي نعني هنا هي قدرة أطباء هذا الزمن على قياس قوة العلاج وتحديد نوعه: وهل هو من العلاج المقطوع به، أو من المضنون، أو من الموهوم. وهذا يتم خلال دراسات علمية مقارنة غير منحازة (19)، بل إنه يمكن تحديد قوة العلاج بالنسبة المئوية. وهذا بالطبع لا ينطبق على كل أدوية هذا الزمن، لكنه ينطبق على كثير منها. والجهات الرسمية والجمعيات العلمية(20)، لا توثّق علاجاً ما، حتى تطمئن إلى قوته الشفائية، وغلبتها على ما قد يحصل بسببه من أضرار.
والحاصل من هذا:
أن الأصل هو الجمع بين الدوائين الإيماني والطبي، لكن يجوز للمرء الأخذ بأحدهما، على شرط التنبه إلى أن التخيير في أخذ العلاج الطبي أو تركه، ليس على إطلاقه، بل هو راجع إلى قوة هذا العلاج، ورجحان النفع به، كما ذكرنا، فكلما كان النفع أرجح كان الأخذ به أولى، وقد يجب، فإذا كان النفع مظنوناً، كان الحزم على تعاطيه أقل. أما الرقى فإنها مندوبة في كل حال، وليست بلازمة. والله تعالى أعلم.
وأما مايصنعه بعض الصالحين، من الاقتصار على الرقية في كل أحوالهم أو غالبها، دون تعاطي ما أباحه الله من الأدوية الحسية المجربة النافعة(21)، فهو في نظري خلاف هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وهديُه عليه الصلاة والسلام أكمل الهدي وأسده، وهو أعظم المتوكلين على ربهم، وأقواهم به يقيناً، ولايليق به، فداه أبي وأمي وأهلي، إلا الأكمل والأفضل والأسد. فالأحرى بالصالحين - حشرنا الله وإياكم معهم، في الدنيا والآخرة - أن يقتدوا بإمامهم –صلى الله عليه وسلم-، فيصنعوا هذا مرة وهذا مرة. جاعلين عمدتهم في هذا التخيير، ما تقدم بيانه من تفاوت قوى العلاجات، المادي منها والشرعي. والله تعالى أعلم وأحكم.
وكذلك ما يصنعه بعض الناس أو الأطباء من تجاهل الرقية أو الاستهانة بها فهو تفريط كبير بدواء إيماني مفيد نافع وليس له أضرار جانبية.
ونؤكد هنا أن الرقى كغيرها من العلاجات الإيمانية الشرعية، ليست طباً بديلاً للطب المعاصر، يلجأ إليها عند فشله، بل هي طب موازٍ، يسير جنباً إلى جنب مع الدواء المادي. وهذا يدلك على خطأ يقع فيه بعض المرضى، حين يجعلون الرقية آخر الدواء، فتراهم يتنقلون بين الأطباء والمستشفيات، ويبادلون بين العقاقير والجراحات، حتى إذا انقطعت بهم الحيلة، وضاق عليهم السبب، فطنوا إلى شأن الرقى، فقالوا: ما لنا لانرقي؟، فقد تنفع!. ومثل هؤلاء يجدر ألا تنفعهم الرقية، لجعلهم إياها القشة التي يتمسك بها غريق البحر، فهي أوهى الأسباب عندهم. إلاّ أن يتولد في قلوبهم من اليقين بالله، وعظيم الاطراح بين يديه، وتعليق أزمة أمورهم إليه، ما يكون من القوة بحيث يغالب الداء، فذاك شأن آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق